مشاركة :
محمد الخطيب: سيرة الدكتور البطل الذي اختلط بدمه تراب حلب بسهل حوران بقلم قائد مجلس حلب العسكري سابقاً : العقيد عبد الجبار عكيدي
"سلاما يا شهيد، موتك حياة تسري في عروقنا وتعيننا على البقاء".
للمرة الألف أكتب وأحذف، وأستسلم أمام اللغة عاجزا عن رصف حروف جملة واحدة أخاطب بها شهيدنا، الشهيد المقدم، ابن حوران، الذي عاش في حلب، محمد الخطيب، أبا عبد الرحمن.
لا أحد ينكر نشوة بدايات الكفاح المسلح، وطهرانيته، احتضان المتظاهرين للجيش الحر، وحماية الجيش الحر للمتظاهرين الذين استمد منهم شرعيته وشجاعته، على مواجهة آلة الأسد العسكرية، وهنا كان لا بد أن يتوّج هذا الإيمان بالخبرة والقدرة، وحين أتيحت الفرصة لكثير من الضباط للتفلت من المراقبة الأمنية الشديدة، كثرت الانشقاقات عن جيش النظام.
وفي التاسع من شهر تموز 2012، كانت الفرصة، فانشق المقدم محمد الخطيب من أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية، برفقة اثنين من أبناء دفعته، هما المقدم المهندس ياسر الجاسم، والمقدم المهندس ثائر إدريس.
ابن حوران الذي تماهى دمه بتراب حلب
أسبوعان كانت قد مضت على بدء معركة تحرير حلب، وصدى معارك الحي الذي كان يقطنه قبل انشقاقه (صلاح الدين) يتردد في أنحاء سوريا، وأذكر في إحدى المرات أني أخطرت إدارة مخيم الضباط أن جبهات حلب المشتعلة بحاجة إلى ضباط منشقين ذي خبرة عسكرية لقيادة معاركها، فجاءنا حينها مسرعاً وكأنه مدعو إلى عرس لفرط حماسته وفرحته. وأذكر كلمات استعجلها وقالها لي: "أريد الالتحاق بجبهات القتال مع فصيل نظيف".. كان ذلك لحظة وصولنا إلى مقر المجلس العسكري في قرية "دوير الزيتون" القريبة من مدينة حلب، وأذكر كيف اختلطت في داخلي مشاعر الفخر بكلماته مع شيء من الحيرة، فالرجل ضابط أكاديمي يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الإلكترونية، وليس لديه الخبرة العملياتية والتكتيكية الكافية، فكيف لي أن أدفع به إلى جبهات القتال، وكان معه ضابطان، أحدهما من أحفاد القسام عز الدين من جبلة الأدهمية، هو الملازم أول موسى غزال، الذي استشهد على جبهات حلب، بعد أن أبلى بلاءً حسناً.
ولد الشهيد محمد الخطيب، في بلدة دير البخت بريف درعا، التحق بالأكاديمية العسكرية في حلب عام 1993، وتخرج بعد خمس سنوات برتبة ملازم أول مهندس، متفوقا على جميع أقرانه وقد حاز المرتبة الأولى في دورته (ميجور الدورة)، وتم فرزه ليكون معيداً في الأكاديمية ذاتها، وفي الخامس والعشرين من شهر أيلول 2007، تم إيفاده لدراسة الدكتوراه في الهندسة الإلكترونية في روسيا ونالها بدرجة تفوق أواخر سبتمبر أيلول عام ٢٠١١.
من التخطيط إلى جبهات القتال
طلبت منه التريث والبقاء معنا في المجلس العسكري للاستفادة من خبرته العلمية والتنظيمية والإدارية، خاصة العملية منها في التعامل مع أجهزة الاتصال والتنصت، وتحديداً ما يتعلق بمنظومة الطيران والتواصل بين الطيارين وأبراج القيادة والتوجيه.
وفعلا، ظل الشهيد معنا ما يقارب خمسة أشهر، لم يفوت أي فرصة لزيارة الجبهات وغرف العمليات، بل وحتى المشاركة في المظاهرات أيام الجمع، وحماسه هذا دفعني لاحترام رغبته في الالتحاق بغرفة عمليات خان العسل المشكلة في نهاية شهر تشرين الأول أكتوبر عام ٢٠١٢ بمشاركة فصائل بارزة، ورغم غلبة المناطقية على التشكيلات، إلا أنه حظي بإجماع تكليفه بمهمة القيادة بعد استشهاد النقيب سعيد عبود (أبي جاسم)، وأسر العقيد عبد المهيمن حزوري (أبي عمرو)، في معركة "قادمون يا حمص".
ارتبط اسم الشهيد بغرفة عمليات خان العسل، أحبها وأحبته، وخاض معها معارك مشرفة، ومنها المراحل السبع لمعركة "المغيرات صبحا"، قائدا ومقاتلا ومخططاً، إلا أن المعركة ذات الصدى الأكبر، والتي أوجعت النظام، هي معركة تحرير خان العسل الكبرى في 21 من تموز 2013.
قبيل انطلاق المعركة بنحو شهر شُكلت الفرقة التاسعة عشرة، وضمت أغلب الفصائل المشاركة في غرفة عمليات خان العسل، ورغم أنه كان زاهداً في المناصب إلا أنه وبالإجماع اختير قائداً لها، ساهراً على تفقد المقاتلين، يقضي ليله ونهاره على نقاط الرباط، وأحايين كثيرة كان ينام فيها مع المرابطين.
تنبع أهمية المعركة في أن خان العسل تعد بوابة مدينة حلب الغربية، وإحدى القلاع المتقدمة لحماية الأكاديمية العسكرية التي تبعد عنها فقط نحو ٥ كيلومترات. قتل في تلك المعركة أكثر من ٣٠٠ ضابط وجندي من قوات النظام، وأُسر الكثير بينهم ضباط برتب عالية.
كان ساحرا انبثاق تلك الطاقة القيادية عند الشهيد أبي عبد الرحمن، فالميدان عموما، وساحات القتال إبان الثورة، تستدعي ميزات إضافية للقائد، وكان خير من مثلها، إذ أنه إلى جانب رقي تعامله وتواضعه، كان حريصا على التعاون ومشاورة كل قادة القطاعات والمحاور، وكان يشاركهم بل ويترك لهم في محطات كثيرة وضع خططهم العسكرية وكان حريصا على تكاملها ونجاعتها.
وأذكر من هؤلاء القادة الميدانيين المقدم محمد بكور (أبو بكر)، النقيب علي شاكردي، النقيب خالد العمر (أبو اليمان)، إبراهيم الشايب، الشيخ عزام حاج عمر، هاني الخالد، حسام ياسين، النقيب رامي قوجة (مصطفى شيوخ)، حسام الأطرش، يوسف حمود، النقيب عبد الناصر شلوح (أبو جلال) ، الملازم أول مرشد الخالد، الشهيد الملازم أول المهندس أحمد اليوسف، المقدم المهندس محمد مصطفى، الشهيد النقيب منذر المحمد، الشهيد نظام بركات، توفيق شهاب الدين، الشيخ أبو سليمان، الشهيد النقيب همام حاج عمر. عبدو زمزم. المقدم المهندس عبد الله منصور (أبو جعفر)، بالإضافة إلى الجنود المجهولين في سرية الإشارة التي هي عصب المعركة وهم، النقيب المهندس عبد الرحمن نجار، فادي قبلاوي، الملازم المجند رائد درويش، الملازم أول المهندس أحمد الحسين، حسن بركات.
الثورة في مفهومها الشامل النقي
انخراط الشهيد في الخطوط الأولى والمعارك الفاصلة لم يمنعه من الالتفات إلى بعض التشوهات في الممارسات، فكان مثل حد السيف في مواجهة اللصوص والفاسدين. فمثلا حين سرق بعض ضعاف النفوس بعد معركةِ تحريرٍ معملَ الأندومي، استشاط غضبا ورمى بندقيته في غرفة العمليات وصرخ في وجه الجميع بوجوب ملاحقة اللصوص قائلا: "إن بقي هؤلاء فلا تحلموا بالنصر". وفعلا تجاوب الجميع معه، وانطلقت "الحملة الأمنية في الريف الغربي" وألقي القبض خلالها على \75\ من كبار اللصوص وتم تحويلهم إلى محكمة دارة عزة المركزية، واستشهد على أثرها قائد الحملة المهندس عمار قاسم (أبو نهاد)، هذا المقدام الذي كان أول من اقتحم مدرسة الشرطة.
في بداية عام 2014 تشكل جيش المجاهدين مؤلفاً من (لواء الأنصار، وحركة نور الدين الزنكي، ولواء أمجاد الإسلام، ولواء الحرية، وتجمع فاستقم كما أمرت، ولواء جند الحرمين، وكتائب الشيوخ)، بقيادة المقدم محمد بكور، وكان المقدم محمد الخطيب قيادياً فيه، وكانت البداية محاربة تنظيم داعش واجتثاثه من مدينة حلب والريف الغربي، ومن ثم ملاحقته في ريف حلب الشمالي من خلال المشاركة في غرفة عمليات مارع، التي يشهد أهلها بالخير والعرفان لهذا البطل الصنديد.
ذِكر كل المعارك التي شارك فيها مهاجماً ومدافعاً ومؤازراً، يحتاج إلى مقالات وربما إلى كتاب، أسرد بعضها باختصار. فالرجل كان يقضي جل وقته على الجبهات، رافضاً حضور الاجتماعات خارج سوريا، وكان دائماً يقول: "يا أخي أنا مكاني على جبهات القتال وليس في مكان آخر"، حتى أنه لم يكن يذهب لزيارة عائلته وأولاده في المخيم إلا كل شهرين أو ثلاثة.
لم يبق له سوى بندقيته
بعد تشكيل جيش المجاهدين والانتهاء من قتال تنظيم داعش الإرهابي، أفل نجم غرفة عمليات خان العسل، وضعفت فاعليتها، فأصبح يتنقل بين الجبهات مقاتلاً فرداً، يضع خبرته بين أيدي الجميع، فشارك في أغلب معارك ريف حلب الجنوبي بمواجهة عملية دبيب النمل، بالإضافة إلى وجوده في غرفة عمليات العامرية إلى جانب الشهيد النقيب المهندس جلال الجع، ومشاركته إلى جانب الشهيد محمد الأعور (أبي صطيف) في معارك جمعية الزهراء.
في ربيع عام 2015، تشكلت كتائب ثوار الشام بقيادة النقيب ناجي مصطفى، وضمت كلاً من (لواء أمجاد الإسلام، وكتائب الهدى، وحركة نور الإسلامية)، وتم اختياره قائدا عسكريا لها، والشهيد النقيب عبد الواحد جمعة نائبا له، ليتابعا معاً فصلاً جديداً من فصول الكفاح والنضال في قيادة معارك أخذت في تلك الفترة طابع الدفاع، والمؤازرات في التصدي لتقدم النظام في حلب وريفيها الجنوبي والشمالي وصولاً إلى حندارات والملاح وباشكوي ورتيان، وكلية المشاة.
مع بداية التدخل العسكري الروسي نهاية أيلول سبتمبر 2015، ومع تقدم النظام باتجاه ريف حلب الجنوبي كان الشهيد محمد أول المشاركين، يتقدم فصيله في التصدي لذلك التقدم، ومن شهد تلك الواقعة يعرف ماذا تعني "سياسة الأرض المحروقة" على الطريقة الروسية، إذ في بعض الأوقات كانت السماء تغص بنحو ١٢ طائرة عسكرية ترمي بحممها المقاتلين ناهيك عن بقية الأسلحة، في معركة كانت عمليا تجرب فيها ثاني أقوى قوة عسكرية في العالم أسلحتها وعازمة على كسبها.
اللقاء الأخير
قبل يوم من استشهاده التقيت بالمقدم محمد الخطيب، تجولنا بالقرب من بيت والدي الذي دمره النظام في قرية "خلصا" خلال بحثنا عن بقايا بيت نتخذه غرفة عمليات، حينها كان الحزن قد تمكن منه، إذ فقد في تلك المعركة أكثر من ٨٠ من عناصره الأبطال أغلبهم من القادة. كان قد قهر الموت وأفقده هيبته، ويحدث أن يجلس في مكان مفتوح على حجر يصرخ بالطائرات من فوقه "يا طيار تعال لهون، مانك شايفني، أنا هون".
بعد ذلك بيوم، لملم ما تبقى من صفوف رفاقه، وفي يوم الجمعة الموافق للثالث والعشرين من شهر تشرين الأول / أكتوبر من عام 2015، فجعت وفجع ثوار حلب باستشهاد المقدم ابن حوران الذي امتزجت دماؤه بتراب حلب، البطل ابن سوريا وابن الثورة وحلم الحرية، محمد الخطيب، زُف العريس إلى مثواه الأخير في مدينة الشهداء (الأتارب)، ودفن فيها.
هنيئاً لأبي عبد الرحمن الشهادة، وهنيئاً لذاك الأديم الذي ضم جثمانه الطاهر، نسأل الله أن يتقبله وجميع الشهداء في عليين.
نقلا عن موقع syria.tv