مشاركة :
البيت المسيحي والانزياحات الامبراطورية – بقلم : الأستاذ عبد الرحمن جليلاتي
في عام 1905م دعى رئيس الوزراء البريطاني "هنري كامبل بنرمان" الدول الاستعمارية (فرنسا - بلجيكا - هولندا - اسبانيا - ايطاليا) إلى لندن لحضور مؤتمر جيوسياسي يبحث الامتدادات الامبراطورية ونفوذ هذه الدول في العالم، سيعرف هذا الاجتماع الذي امتد حتى عام 1907م لاحقاً بإسم "مؤتمر كامبل" أو "مؤتمر بنرمان" ونتج عنه ما عرف "بوثيقة بنرمان".
برغم الجدل الذي يصاحب هذه الوثيقة عند ذكرها بين مثبت لوجودها ومنكر له إلا أن أحداً لا ينكر حدوث المؤتمر نفسه، ورغم التعتيم الواضح على مخرجاته إلا أننا وبقراءة بسيطة لتاريخ المنطقة خلال المئة عام المنصرمة نجد الكثير من الإشارات التي تدل على أن الدول الغربية تفكر بنفس العقلية التي تصورها الوثيقة المزعومة، آخرها تصريحات قائد البحرية الألمانية "كاي أشيم شونباخ" الذي قال صراحة ( كوني مسيحي كاثوليكي فإن الحضارة الغربية بحاجة لروسيا المسيحية في مواجهة الصين، ولا يهم في ذلك كون بوتين نفسه ملحداً! ) هذه التصريحات الصريحة والتي دفع ثمنها شونباخ بأن قدم استقالته لم تدهشني لذاتها، ما أدهشني هو قدرة الغرب على تسميم الخبر، فبعد انتشار التصريحات حورت وسائل الاعلام الغربية تلك التصريحات، فطمست إشارته لمسيحية أوروبا واقتصرتها وركزت على احترامه لبوتين ووصفه بأنه "رجل يبحث عن الاحترام الذي يستحقه" وصوروا ذلك على أنه سبب الاستقالة! ثم نقلت كل وسائل إعلامهم الخبر بدون أي ذكر للجملة المهمة التي كشفها الرجل (مسيحية أوروبا) والتي أشار إليها مراراً الرئيس التركي كلما ماطل الأوروبيون في مباحثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
وهنا يحق لنا أن نتساءل هل تم اخفاء وطمس وثيقة كامبل كما تم طمس تصريحات شونباخ؟ وهو ما أشار له الدكتور جاسم سلطان في كتابه "إدارة فلسفة التاريخ" من أنه تم الإفراج عن الوثيقة البريطانية من الأرشيف لمدة أسبوعين فقط ثم تم حجبها مرة أخرى خوفاً من آثارها الممتدة! إذا كان الجواب نعم فإن اتهام أمة إقرأ بأنها لا تقرأ أصبحت فارغة وجلد مؤذي للذات يستثمره أعداؤنا لبث التثبيط، وإذا كان الجواب لا كما ذهب إلى ذلك الدكتور أنيس الصايغ مدير المركز الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير والمنحدر من أب سوري مسيحي في مذكراته أنه خلص لنتيجة "بعد بحثه عشر سنوات عن الوثيقة بأنها غير موجودة" فإننا لن نجد الكثير لندافع به عن وجهة النظر هذه أمام مؤيدي نظرية المؤامرة الذين يستشهدون بقرائن مماثلة على دعواهم ، إلا تذرع بعض الباحثين بالأمانة العلمية للنقل والاستدلال، تلك الأمانة باتت بنظر كثيرين جزءاً مهماً من عملية تكبيل التفكير المستند إلى الأحداث بسياقاتها التاريخية، والذي نتج عنه انحراف في تحليل الوقائع التي نعيشها منذ مئة عام.
عندما استمعت إلى تصريحات شونباخ قفز إلى ذهني ما قاله "كامبل" في كلمته الافتتاحية للمؤتمر "إن صيرورة الامبراطوريات هي التوسع ثم التمكين ثم الأفول والاندثار رويداً رويداً" فكان من الواضح أنهم يستشعرون انحسار امبراطوريتهم التي لا تغيب عنها الشمس، ولنا أن نتصور أن جوهر المؤتمر هو "ضمان استمرار سيطرة وتطور البيت المسيحي على حضارات العالم" ونستطيع الاستدلال على هذه الفقرة بالذات بالطريقة التي سلمت بها بريطانيا (الامبراطورية الآفلة) الولايات المتحدة (الامبراطورية الصاعدة) مواطيء أقدامها في الدول التي كان لها نفوذ فيها، هذا الإسقاط التاريخي ليس فقط له مدلولاته على سياسات الدول الغربية بل يجعلنا نفهم المنطلقات التي تحكم تلك السياسات.
لقد ذهبت الوثيقة إلى حد تقسيم العالم إلى مساحات ملونة تبعاً للمنظومة الدينية والقيمية والحضارية لكل شعوب العالم، وأوجبت استمرار سيطرة الغرب على المضائق المائية، كما سمت البحر الأبيض المتوسط "البحيرة المسيحية" نظراً لأهميته البالغة، ومن هذه التسمية نستطيع أن نفهم لماذا يدعمون الأقليات والعملاء للسيطرة على شواطئه، ثم نستطيع أن نسقط ذلك على واقعنا اليوم وكيف أنهم تغاضوا عن سيطرة روسيا على موانيء سورية ولم يسمحوا لإيران مثلاً بأن تسيطر عليها.
لكننا وبرغم كل ما سبق لا نستطيع الجزم بأن بوتين روسيا يتشارك اليوم هذه الأفكار مع الأوربيين، كما أن الأمريكيين قد لا يتشاركونها، فهم أثبتوا مراراً أن لهم نظرتهم الخاصة للمنطقة، كما فعل أيزنهاور عندما وقف ضد الاعتداء ثلاثي على مصر، وقد يكون بوتين الذي لا شك في أنه يستغل صعود اليمين الشعبوي اليوم في أوروبا لتمرير مصالحه، قد يكون آمن فعلاً بتلك الأفكار ويعمل على إقناع الأوربيين بأن روسيا هي الامبراطورية الصاعدة التي ستزيح المصالح الامبراطورية الأمريكية رويداً رويداً، فهل سيقتنع الأوربيون بذلك؟ اعتقد أن أزمة أوكرانيا التي دفعت شونباخ لتصريحاته تلك ستكشف لنا قريباً تموضع كل الأطراف وستجيب على الكثير من الأسئلة.